قال
الرازي: (فكيف يمكن بناء العقيدة على هذه الروايات الضعيفة)، وجوابه: أنها إذا كانت ضعيفة فإننا لا نبني عليها شيئاً. وهذا وجه مهم جداً في استدلالاتهم، حيث يقرر
الرازي وأمثاله أنه اشتهر بين الأمة أن جماعة من
الملاحدة وضعوا أخباراً منكرة واحتالوا في ترويجها على المحدثين، والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها بل قبلوها، وأي منكر فوق وصف الله تعالى بما يقدح في الإلهية ويبطل الربوبية؟! فوجب القطع في أمثال هذه الأخبار بأنها موضوعة.ونعم إذا كانت الأخبار تقدح في الربوبية وتقدح في الألوهية فنقطع بأنها موضوعة لكن
الرازي يقصد أحاديث العلو ويعني أنها تقدح عنده في الربوبية والألوهية و
الملاحدة هم من أدخلها، والمحدثون لسلامة قلوبهم ما عرفوها، وهذا الكلام غير صحيح، وإن صح أو صدق على بعض المحدثين ممن يلتزم مجرد الرواية دون التمحيص والتدقيق أو قد يتساهل في تصحيح الأحاديث فإنه لا يصدق على الكل؛ فإن المحدثين هم أعرف الناس بكذب الكاذبين وافتراء المفترين، وسنذكر إن شاء الله أمثلة من كلامهم توضح ذلك، ولهذا لما قال ذلك الزنديق الوضاع لـ
هارون الرشيد : قد وضعت في دينكم أربعة آلاف حديث، فقال له: يا عدو الله عندي
عبد الله بن المبارك وفلان وفلان يمحصونها حديثاً حديثاً، فكانت الأمة واثقة -والحمد لله- أنه مهما كذب وافترى الوضاعون؛ فإن من المحدثين من يمحصها ويخرجها حديثاً حديثاً.وقوله: بأن المحدثين لسلامة قلوبهم إن كان يعني من الغش فنعم قلوبهم سليمة من الخيانة والكذب والظلم، أما إن كان يعني بسلامة قلوبهم أنهم مغفلون لا يفرقون بين الحديث الموضوع والحديث الصحيح فهذا الكلام باطل، بل هم صيارفة الرجال وصيارفة الروايات ونقادها.قال
الرازي : (وأما
البخاري و
القشيري مسلم فهما ما كانا عالمين بالغيوب)، ومن الذي قال: إنهما يعلمان الغيب، وهل قال أحد من
أهل السنة ذلك؟ الجواب: لا، بل هما اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتها، فأما اعتقاد أنهما علما جميع الأحوال الواقعة في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا فلا يقوله عاقل، ولا قاله أحد من العلماء، فمن قال: إن
البخاري و
مسلم يعلمان الغيب ويعلمان الأحوال من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمانه فهو مخطئ، و
أهل السنة إنما يقولون: إن كتابيهما أصح الكتب بعد كتاب الله، وإن الأمة أجمعت على تلقيهما بالقبول.قال
الرازي : (غاية ما في الباب أننا نحسن الظن بهما، وبالذي رويا عنهم، إلا أنا إذا شاهدنا خبراً مشتملاً على منكر لا يمكن إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قطعنا أنه من أوضاع
الملاحدة ومن ترويجاتهم على أولئك المحدثين).وجوابه: أنه لا يمكن أن يكون في كتابي
البخاري و
مسلم حديث موضوع أبداً، لكن هل يمكن أن أن نجد فيهما ما فيه خطأ أم لا؟ الجواب: نعم. هذا هو الفرق بين عدل
أهل السنة وجور أهل الأهواء والبدع، فأهل الأهواء والبدع يقولون: إنا وجدنا في
البخاري مائة وعشرين حديثاً منتقدة فنرد الصحيح كله، وهذا جور وإجحاف، فكفى المرء فضلاً أن تعد معايبه، والحمد لله فـ
البخاري لم يُنتقد عليه إلا مائة وعشرون حديثاً، ومع ذلك فأكثرها الحق فيها مع
البخاري ، لكن هل يعني ذلك أنه لا يوجد رواية في
الصحيح نجزم أنها خطأ؟ الجواب: لا. إذاً: فهل بكلام
الرازي وأمثاله بقواعده وقوانينه العقلية يجزم بأن بعض الروايات غير صحيحة؟ الجواب: لا. بل نجزم بوجود رواية خاطئة في الصحيحين بدليل الروايات الأخرى الصحيحة في الصحيحين أو خارجهما أو فيما هو أجل من ذلك وهو القرآن، فنعلم أن هذه الرواية أخطأ فيها أحد الرواة؛ لأنا نجد مثلاً في بعض ما في
البخاري يكون للقصة الواحدة أو الحادثه الواحدة ثلاث روايات أو أربع، ونجزم أن رواية منها هي الصحيحة وما سواها هي الخطأ، ومع ذلك فعملنا هذا ظني، فما صححه البعض قد يكون هو الخطأ عند الآخر، ولا شيء في هذا، وهذا أكثر ما يوجد في
مسلم كما ذكر
شيخ الإسلام رحمه الله، وأقلها في
البخاري ، ولا يقدح ذلك ولا يطعن فيهما، فانحصار الأخطاء في روايات معينة معروفة نقدها النقاد ومحصوها وأجاب عنها الحافظ
ابن حجر رحمه الله وغيره وردوا كلام
الدارقطني وغيره ودافعوا وبينوا وسلموا بعض الأمور هذا نفسه دليل على أن هذا الحديث محفوظ ولله الحمد، فإنه بعد التمحيص والتدقيق علمنا أن الرواية الفلانية فيها خطأ وأما غيرها فهو حق وصواب والحمد لله، فهذه هي نتيجة التمحيص والتدقيق والبحث والتنقيب والحمد لله، إذاً: فليس بسلامة قلب -كما يقول
الرازي - قبلت الأحاديث وأخذت من
الملاحدة الذين وضعوا ما شاءوا وقبلناها منهم.